حماية الملكية الفكرية .. حماية للعقل
للأستاذ تركي العسيري
قال تعالى : (( يا ايها الذين امنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم )) سورة النساء
قانون حماية الملكية الفكرية في أي بلد يقوم بحماية أغلى وأثمن كنز من ثروات البلد وهو العقل، ولذلك يمكننا أن نطلق عليها أيضا حماية الملكية العقلية، التي تهدف الى حفظ حقوق التأليف الناتجة بشكل رئيسي من فكر الإنسان وكل مجهود عقلي يقوم به، والتي تتشكل بصور مختلفة: كتأليف الكتب، كتابة المقالات العلمية، ابتكار طرق إدارية، الصور والرسوم، الأفلام المرئية والمسموعة، والاهم من هذا كله تطوير برامج الكمبيوتر.والإجراءات الروتينية التي تتبعها الدول لحفظ هذه الحقوق تكون مختلفة، ولكن في اغلب الأحوال تتم بعد قيام صاحب الابتكار والفكرة بتسجيل فكرته والحصول على حقوق التأليف واخذ براءة الاختراع من إحدى الجهات الحكومية والمسئولة عن حماية حقوق الملكية الفكرية في الدولة، وقد تكون هنالك رسوم بسيطة، وبمجرد قيام الشخص بالتسجيل، فقد ضمن لنفسه وعقله الحفاظ على ممتلكاته من النسخ والتزوير والسرقة - أي من القرصنة Piracy بشكل عام.
النظرة الاقتصادية تشير إلى أن الإنسان ليس بحاجة إلى شهادة في تخصص علم الاقتصاد حتى يقتنع ان دخول أي صناعة جديدة وتطور تقني تشهده أي بلد يؤدي إلى زيادة في الناتج القومي المحلي GDP للدولة. ولو فكرت قليلا وأخذت الصناعات الحديثة كالاتصالات والطيران ووسائل الترفيه وغيرها، ستجد أنها ساهمت في زيادة اقتصاد الدولة، ووفرت آلاف الفرص الوظيفية. ليس هذا فقط، بل ان دخول أي صناعة جديدة ينتح عنه ارتباطات لجهات أخرى، فلو تأخذ الهاتف على سبيل المثال لا الحصر، ستجد فرصا أخرى لبيع اجهزة الجوال والاتصالات، بل حتى دخلت شركات الإعلانات الهاتفية، وهناك شركات الترفيه المتخصصة في النغمات والرموز على الاجهزة، وظهرت شركات اخرى لصيانة اجهزة الجوال وخدمات الدعم الفني، وعشرات الشركات الاخرى المتعاقدة Contractors مع الشركة الام، والمزيد والمزيد (وكله في النهاية من مصلحة المواطن في توفير المزيد من الفرص الوظيفية)، فلو تلاحظ ان جميعها ظهرت بسبب دخول شركة اتصالات في دولة ما، وانها مرتبطة به ارتباطا وثيقا. كذلك الحال مع صناعة البرمجيات Software Industry، فعندما تثبت هذه الصناعة وجودها في أي دولة، ستلاحظ زيادة في مبيعات أجهزة الكمبيوتر، وستظهر المزيد من معاهد تقدم دورات تدريبية، وستكون هناك جهات وشركات استشارية للمشاريع الكبيرة، وسيزداد الطلب على شركات امن المعلومات Security وشركات إنتاج وحدات التخزين Storage Mediums، وستكون الحاجة لمزيد من المبرمجين والمصممين والمهندسين، و.. و.. وغيرها الكثير. وهذه القفزات الايجابية نتيجتها قاعدة ثابتة عند دخول أي صناعة جديدة.
النظرة التنموية، عندما يقوم احد الأشخاص بإنتاج برنامج او تطبيق فكرة ناجحة لها صدى، فالنتيجة ستكون واحدة من اثنتين: اما الاستمرار في تطوير هذه الفكرة وزيادة الإنتاجية Productivity التي تقدمها، واما الإحباط واليأس سيكون من نصيبه. فلو قضيت عشرات الاشهر في كتابة كتاب او تطوير برنامج، وتمت حماية حقوق ملكيتي الفكرية له، فماذا ستكون النتيجة؟ بكل تأكيد لن اقف مكتوف الأيدي شاعراً بالاكتفاء الذاتي، بل ستزيد من حماس الشخص والتطلع الى التطوير والتنمية في هذا المجال، ويبدأ بالعمل أكثر من المرة السابقة لاستمرار إنتاجيته. من ناحية أخرى، عند قيام المخربين بنسخ ما جفت عليه أقلامي من التعب، وبادر الجميع بخرق قانون حماية الملكية الفكرية، فستجد الإحباط واليأس عند هذا الشخص ما الذي لا يعلمه إلا الذي ذاقه فقط، بل قد تصل الأمور إلى كره المجتمع الذي حوله، وعد التفكير مطلقا بنفعهم او تطويرهم، وإن كان شخصا محظوظا قد يبدأ يفكر في السفر او الهجرة، او تجده في المقاهي يسب ويشتم ويمارس حياة بائسة تقليدية.
الدعوة إلى الابتكار Creativity، كما ذكرت في بداية هذا المقال، فان العقل البشري هو أثمن واغلى مصدر على أي دولة الحفاظ عليه وحماية حقوقه، ولا يختلف شخصان على ان تطور الأفراد والمجتمعات ناتج من الابتكار وخلق أفكار جديدة والتفكير في حلول تزيد من إنتاجية الفرد والمجتمع. من الثقافات التي تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا - نتيجة للعوامل التعليمية والاجتماعية- هو الانقياد وعدم التفكير مطلقا في استخدام كلمة « لماذا؟ » فتجدنا منقادين دون أن نعرف لماذا والى أين ننقاد، ويصبح تفكيرنا محدودا لا يتعدى نطاق المكان الذي سنقضي فيه الليلة بعد نهاية يوم العمل او مكان قضاء العطلة الصيفية، وهذا الشيء - مع الأسف الشديد- منغرس فينا وفي ثقافتنا. اما ان بدأ الشخص يسأل ويكثر من استخدام الكلمة «لماذا؟» فهنا ستكون بداية الطريق إلى عالم الابتكار والنظر الى الامور من زوايا اخرى، فعندما ارى مشكلة ما في جهة تنظيمية، استطيع ان اطرح اسئلة لماذا؟ لماذا لا نقوم بتغيير طريقة إجراء هذه المعاملة حتى نختصر الوقت، لم لا نقوم بتحويل استخدام هذه الخطوات من قاعد ورقية الى قاعدة معلوماتية؟ وغيرها من الاسئلة التي تنتج في النهاية افكاراً وحلولاً جديدة، فالحاجة هي ام الاختراع. ان نظرنا الى مجتمعنا السعودي بشكل خاص؛ فلديه من الطاقات الكامنة التي تساوي ملء الارض ذهبا، واختص بالطاقات الكامنة هنا بالطاقات العقلية في العنصر البشري، التي ان استثمرت بشكل صحيح ستغطي ما يقلل اعتماداتنا على المصادر الاخرى، فهذا شاب له من الافكار الكثير، وهذه شابة لها من الابداعات ما يفوق التوقعات، وعدم وجود الفرص السانحة لهم والامكانات شيء محبط ومغيظ، وقد يحول الانسان من شخص منتج الى مستهلك. والتجربة الهندية خير دليل، فقد أصبحت الشركات الأوروبية والأمريكية تستورد عشرات الآلاف من الهنود سنويا بسبب عقولهم.
اثبت قانون حماية الملكية الفكرية وعوده عند تطبيقه في الدول المتقدمة بهدف حماية عقول الأفراد وانتاجاتهم الفكرية في المجتمع، وهو يؤدي الى زيادة نمو المجتمعات من نواح عدة كالنواحي الاقتصادية والتنموية والبشرية، وهو ايضا العامل الرئيسي لخلق افكار جديدة وتطوير الصناعات. ولو نظرنا في شريعتنا السمحة، لاكتشفنا ان الدعوة الى حماية الملكية الفكرية منذ 1400 سنة مذكورة في القرآن الكريم في قوله تعالى بسورة النساء (( يا ايها الذين امنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم )) وفي سورة البقرة (( ولا تاكلوا اموالكم بينكم بالباطل ))
وفي الختام، عند تطبيق حماية الملكية الفكرية (بشكل واقعي وليس ورقي) فلا تستبعد يوما من الايام قراءة عناوين في الصحف شبيهه بـ :
• وفقا لاحصائيات عالمية، السعوديون افضل مبرمجين حول العالم !
• وكالة ناسا الفضائية تستقطب استشاريين سعوديين لدعم احد مشاريعها !
• زيادة البعثات الدراسية من حول العالم الى المعاهد والجامعات السعودية لتعلم التقنية !
• قناة CNN تعتمد أنظمتها الجديدة بإشراف شركات سعودية !
هل تود قراءة مثل هذه العناوين يوما ما؟ وكيف سيكون شعورك ان تحققت؟